العلاقة بين اللغة والفكر

د. كريمة الجايي

اللُّغة هي وسيلة للتعبير والتبليغ، وهي عبارة عن نسقٍ من الإشارات التي يمكن أن تستعمل للتواصل، ولا شكَّ أنَّ العامل الأساسي في نشأة اللُّغة الإنسانيَّة يرجع إلى المجتمع نفسِه وإلى الحياة الاجتماعية؛ فلولا اجتماع الأفراد فيما بينهم وحاجتهم للتفاهم والتواصُل والتعبير عمَّا يجول بخواطرهم ما وُجدَت لغة، فهي ظاهرةٌ اجتماعيَّة تَنشأ كما يَنشأ غيرها من الظَّواهر الاجتماعيَّة، فتنشأ بصورة طبيعية تلقائيَّة، تنبعث عن الحياة الجماعيَّة وما تقتضيه من شؤون.

إلاَّ أنَّ هناك سؤالاً يطرح نفسَه باستمرار: ما هو أصل اللغة؟ وكيف وُضعَت الكلمات؟ وما هي العلاقة بين الكلمة والشيء أو المعنى الذي تدل عليه؟[1]

إن َّالإجابة على هذه الأسئلة يَجعلنا نفكِّر في علاقة الكلمة وما تدلُّ عليه، وبمعنًى أوضح علاقة اللُّغة بالفِكر: “اللغة والفِكر وجهانِ لعملةٍ واحدة، فلا بدَّ للفكر من لغة يعبِّر بها الإنسان عن أفكاره ورغباته، ولا بد للُّغة من فكرٍ حتى يطوِّرها ويَسمو بها”[2].

إنَّ الله سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلاً يفكِّر به، ولسانًا يعبِّر به؛ لهذا ما يزال موضوع الفِكر واللغة وتحديد الرَّوابط بينهما من أشدِّ المباحث تعقيدًا، وقد شغل هذا الموضوع الباحثين على اختلاف فنونِهم وعلومهم؛ إذ لم تقتَصر دراسةُ العلاقة بين اللُّغة والفِكر على العلوم الحياتيَّة؛ بل امتدَّت لتشمل العلومَ الاجتماعيَّة وفي مقدِّمتها علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع،وقد تنازع البحثَ فيها اللغويُّون والفلاسفة، كلٌّ يحاول تحديدَ العلاقة التي تربط بين اللغة والفكر؛ فاللغة هي الوسيلة التي يعبِّر بها الإنسان عن أفكاره وما يلِج بداخله، وهي أيضًا وسيلة للتفاهم والتواصل بين الأفراد، فاللُّغة تعبِّر عن الفِكر، وبما أنَّ الفكر في تغيُّر مستمرٍّ نتيجة العوامل والتغيُّرات الخارجيَّة والتطورات العلميَّة، فلا بدَّ للغة أن تساير هذا الفِكرَ بكلِّ تغيُّراته وتطوراته؛ لهذا فعلاقة اللُّغة بالفِكر هي علاقة وطيدة، يقول العالِم دولا كروا: “إنَّ الفِكر يصنع اللُّغة في نفس الوقت الذي يُصنَع فيه من طرف اللغة”[3]، فاللُّغة هي التي تعبِّر عن الفِكر؛ لذا فالبحث في هذا الجانب من جوانب الدَّرس اللُّغوي لا بدَّ أن يكون بحثًا لغويًّا فلسفيًّا.

لهذا نشير أنَّ البحث في هذه المسألة يَقتضي التعرُّف على بعض مناهِج عِلم النَّفس؛ إذ يَلعب هذا العلم دورًا هامًّا في الكَشف عن حقيقة العلاقة بين اللُّغة والفِكر؛ لأنَّ الفِكر يتَّصل اتصالاً وثيقًا بعمليات شعوريَّة وعقليَّة تتم داخل عقل الإنسان الواعي واللاواعي أيضًا؛ ومن ثمَّ فإنَّ علم النَّفس يساعد على الكَشف عن طبيعة هذه العلاقة[4]، ولقد كانت هناك محاولات عمليَّة متعدِّدة على مرِّ العصور تعرض لهذه المشكلة، وخاصَّة أثناء البحث في اللُّغة ونشأتها أو في الفلسفة بشكلٍ عامٍّ، وقد بدأتْ تلك المحاولات عند اليونان مرورًا بالعرَب والأوروبيين إلى العصر الحديث الذي أضاف باكتشافاته العلميَّة في ميادين عِلم اللُّغة وعلم النَّفس والفلسفة ونحوها – أدوات ساعدَت إلى حدٍّ كبير على تحديد هذه العلاقة.

إنَّ تصور العلاقة بين اللُّغة والفِكر في الدراسات اللغويَّة المعاصِرة أصبح أكثر تعقيدًا بسبب تطوُّر الدراسات في علم اللغة؛ حيث إنَّ هذه الدِّراسات المعاصرة تتَّصل بميادين أخرى، منها: الميدان النفسي، والميدان الروحي، والميدان الاجتماعي، هذا التداخل بين علم اللُّغة وعِلم النَّفس أدَّى إلى ظهور ما يُعرف بـعلم اللُّغة النَّفسي؛ لأنَّ اللُّغة مظهر من مظاهِر السلوك الإنسانيِّ، هذا الأخير الذي يُعتبر مبحثًا من مباحث عِلم النَّفس، وهو من المباحث التي يَرتبط فيها علمُ اللُّغة وعلم النفس.

ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ الدراسات اللغويَّة المعاصرة قدَّمَت آراء مختلفة ونظريات عدَّة توضح العلاقةَ بين اللغة والفِكر، ويمكن القول: إنَّ خلاصة تلك النظريَّات والآراء تكمن في نظريَّتين رئيستين، هما:

النظرية الأولى: نظرية استقلال الفِكر عن اللُّغة استقلالاً غير نسبي، مع وجود التأثير المتبادل بينهما.

النظرية الثانية: نظرية العزل، ومضمون هذه النظريَّة هو الإقرار بأنَّ اللُّغة معزولة عن الفِكر، فأصحاب نظريَّة العزل يجرِّدون التفكير من جميع ارتباطاته الحسيَّة الماديَّة باللُّغة، وينظرون إلى كلٍّ منهما بمعزل تامٍّ عن الآخر[5].

وعلى الرغم من كلِّ هذه النظريَّات والمحاولات، فقد ظلَّت العلاقة بين اللُّغة والفِكر من الأمور التي لم يستقر على تحديدها الباحثون بعد، ولم يتَّفقوا على رأيٍ قاطع فيها، ولعلَّ لطبيعة تلك المشكلة من حيث هي مشكلة فلسفيَّة أكثر منها مشكلة لغويَّة دخلاً كبيرًا[6].

والخلاف القائم ليس في مدى ارتباط اللُّغة بالفِكر، فهذه قضيَّة يبدو أنَّ هناك قدرًا من الاتفاق عليها؛ وإنَّما الخلاف في أسبقيَّة وجود كلٍّ منهما على الآخر، هل الفِكر وُجد قبل اللغة؟ أم اللُّغة قبل الفِكر؟ هل الفِكر خالق اللُّغة وموجِدها؟ أم أنَّ اللغة هي التي تَصنع الفِكرَ وتكوِّنه؟

هذا الخلاف في الواقع خلافٌ طويل، ويكاد يكون الخوض فيه عملاً قليل الجدوى، ضعيف النتائج، ولكن على أيَّة حال، فالعلاقة بين اللُّغة والفِكر هي علاقة قائمة على الاتِّحاد بينهما، كلٌّ منهما يتأثَّر بالآخر ويؤثِّر فيه؛ فالفِكر إذَا تغيَّر أو تطوَّر تغيَّرَت معاني الكلمات وتطوَّرَت هي الأخرى، وكذلك اللُّغة فهي لم تَقتصر على كونها معبِّرة عن الفِكر، بل كانت كذلك أداة نموِّه وارتقائه أو كما قال إدوارد سابير: “إنَّ نموَّ وتطور اللغة يعتمد إلى حدٍّ كبير على نمو وتطور الفكر”[7].

هذا عن علاقة اللُّغة بالفِكر، أمَّا إذا أردنا معرفة أصل اللُّغة وكيف نشأَت، فهي كذلك من الأمور التي ما زالت غامِضة، ولكي نَكشف هذا الغموض علينا أن نَرجع إلى العهود القديمة التي لا نعلم عنها شيئًا يقينًا، والعِلم لا يأخذ بالغيبيَّات أو الحدس، إلاَّ إذا كانت افتراضات قيد البرهان[8].

ولكن أصل الإنسان ونشأة لغته أمرٌ يثير الخيال، وأصل اللُّغة ليست قضيَّة لغوية بحتة، ولا تدخل في نطاق عِلم اللُّغة، بل في نطاق البسيكولوجيا والأنتروبولوجيا والفلسفة.

ومعرفة أصل اللُّغة من أقدم المشاكل الفكريَّة التي جابهَت عقل الإنسان، وليس من السَّهل اليسير البحث فيها؛ ذلك أنَّ اللُّغة أداة مركَّبة معقَّدة، فهي ذات جوانب كثيرة، وتتألَّف من عناصر متعدِّدة، وتأخذ خلال الزَّمن أشكالاً مختلفة تتنوَّع وتتعدَّد بتنوُّع وتعدُّد البيئات والمجتمعات.

ونجد أنَّ العرب انقسموا إلى قِسمين إزاء هذه المشكلة – أصل اللغة – فقالت جماعة: إنَّ اللغة توقيفيَّة في عهد آدم عليه السلام؛ أي: إنَّ الله علَّمها الإنسان، ويمثِّل هذه النظريَّة ابن فارس المتوفي عام 395 هـ؛ إذ يقول: “إنَّ لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قولُه عز وجل: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 – 33].

وقالت جماعة: إنَّها “اصطلاحيَّة توافقيَّة اجتماعية” في العهود التالية؛ لأنَّ الحياة تتطوَّر وتتغيَّر، ولا بدَّ لهذا التغيُّر من مسايرَة اللُّغة لكي تعبِّر عن متطلبات أهلها، يقول ابن جني: “وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات، فيضعوا لكلِّ واحدة منها سِمَة ولفظًا إذا ذُكر عرف به مسمَّاه؛ ليمتاز عن غيره، ويغني بذكره عن إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله”[9].

ولكن الملاحظ أنَّ كلَّ الآراء التي كانت تدور حول أصل اللُّغة كانت تدور في حلقة مفرغة، فكثر القولُ فيها إلى حدٍّ جعل علماءَ اللُّغة المحدَثين قد فصلوا مسألةَ البحث في أصل اللُّغة وألفاظها ونشأتها الأولى عن مباحث عِلم اللغة، واعتبروا البحثَ فيها كسائر المباحث التي هدفها مَعرفة بداية الحياة الإنسانيَّة والاجتماعيَّة التي ارتبط البحثُ فيها بنطاق الفلسفة أكثر من أن يكون من اختصاص العلم، أضِف إلى ذلك قلَّة جدوى هذا البحث، وقد كان هذا الموقف نفسه موقف كثيرٍ من علماء السلَف في تاريخنا العربي، فقد قال ابن السبكي: “الصحيح عندي أن لا فائدة لهذه المسألة”[10].

[1] د. علي عبدالواحد وافي: نشأة اللغة عند الإنسان والطفل، دار النشر:نهضة مصر، يونيو، 2002،ص: 29.

[2] د. أحمد عبدالرحمن حماد: العلاقة بين اللغة والفكر، دراسة للعلاقة اللزومية بين الفكر واللغة، 1985، دار المعرفة الجامعية ص: 7.

[3] د. أحمد عبدالرحمن حماد: المرجع السابق، 1985، ص: 17.

4 د. أحمد عبدالرحمن حماد: المرجع السابق،1985، ص:18

[5] د. حامد كاظم عباس: جدلية اللغة والفكر، مجلة كلية الآداب / العدد ٩٧ د، ص. 170 – 171.

[6] أنيس فريحة: نظريات في اللغة، دار الكتاب بيروت، 1973، ص: 15.

[7] أنيس فريحة: المرجع السابق، 1973، ص: 16.

[8] حلمي خليل: المولَّد في العربية، الطبعة II، دار النهضة العربية، بيروت، 1982، ص: 20 – 21.

[9] د. أحمد عبدالرحمن حماد: المرجع السابق، 1985، ص: 14.

[10] علي عبدالواحد وافي: علم اللغة، نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة التاسعة، 2004م، ص: 83.

رابط الموضوع